القضية الجنوبية وإشڪالية الهوية "1، 2، 3" .

 

 

 

 

"مقدمة"..
يبدي الكثير من الإخوة السياسيين والإعلاميين اليمنيين المؤيدين لنظام الحكم (السابق والحالي) في اليمن انزعاجاً شديداً عند ما يقول المواطنون والسياسيون الجنوبيون أن حرب 1994م قضت في ما قضت على الدولة والهوية والتاريخ والثقافة الجنوبية، ويتساءل كثيرون منهم: 
ـ عن أي هوية تتحدثون ونحن ليس لدينا في اليمن إلا دولة واحدة وهوية واحدة وتاريخ واحد؟ وما إلى ذلك من التعبيرات التي حفرت حضورها في ذاكرة الكثيرين تحت تأثير الدعاية والتحريض الإعلاميين الذين ظلا على مدى عقود من الزمن يهدفان إلى التركيز على البعد السياسي لمفهوم الهوية بعيداً التعريف العلمي لهذا المفهوم، بل وعن المضمون المتداخل والمعقد والمتغير لهذه لقضية التي تتطلب وقفات مطولة.
إن أهم ما في هذا الفهم المضبب والمموه والمشوه للهوية يتمثل في الخلط بين عدة مفاهيم ومقولات، كل واحدة منها تستدعي كتاباً منفرداً إن لم يكن أكثر، حيث يجري الخلط بين مفهومي الدولة والهوية، وبين الدولة والتاريخ، وبين التاريخ والثقافة وبين الثقافة والهوية، وبين كل هذه المفاهيم وبعضها البعض، إما بسبب عدم فهم معاني وتأويلات تلك المفاهيم والتمييز بينها، أو في إطار محاولات لتتويه القارئ أو المتلقي عن القضية الرئيسية المتصلة بالهوية ومعانيها وأبعادها ومضمونها.
إن ما يثير غضب هؤلآء السياسيين ومؤيديهم من الحديث عن هوية جنوبية يمكن أن يكون منطلقه الأساسي الاعتقاد الذي كرسته الإيديولوجيات المختلفة (الإسلامية والقومية واليسارية) من مفاهيم عن "الأمة العربية" و"الأمة الإسلامية" و"الوحدة العربية" ومثلها "الوحدة اليمنية" وقصة “الأصل والفرع” في ثنائية الشمال والجنوب، وإذا ما أضيف إلى ذلك شعارات مثل شعار “الثورة الأم والثورة البنت” و”الوحدة أو الموت” و”الوحدة المعمدة بالدم”، فإنه يمكننا أن نتفهم جزءً كبيراً من أسباب الغضب والامتعاض من الحديث عن "الهوية الجنوبية"، لكن هذا الفهم في غالبه لا يحضر إلا عند أصحاب النوايا الحسنة الذين ما يزالون يعيشون مرحلة الوفاء للإيديولوجيا (بوعي أو بغير وعي) وإهمال الأبعاد الإنسانية والواقعية والاجتماعية والتاريخية لمفهوم الهوية، واستبعاد أو تجاهل كلما يربط الهوية بمصالح السواد الأعظم من البسطاء الطامحين إلى حياة أقل مهانة وأقل فقراً وبؤساً وعناءً وأقل أوبئةً وحروباً ودماءً، وأكثر رخاءً وأمناً واستقراراً وفرصاً للنهوض، وأكثر أهليةً للحاق بعالم القرن الحادي والعشرين، أما في الغالب الأعم فإن ما يستفز هؤلاء وخصوصا المنتميين إلى الطبقات (السياسية) الطفيلية منهم، وهي المتحكمة في أدوات الإعلام، ووسائل وأدوات صناعة القرار، هو الحديث عن الهوية كمصلحة وانتماء وروابط اجتماعية واقتصادية وخدمية وعواطف ومشاعر وتطلعات وأماني مشتركة، وقبل هذا وبعده المشاركة في صناعة القرار وفي الاستفادة من الموارد الوطنية، أو ما يسميه الساسة بالتوزيع العادل للسلطة والثروة، لإنهم بذلك يشعرون بأن لا مصالحهم ولا مشاعرهم ولا انتماؤهم ولا روابطهم ولا عواطفهم لها أي علاقة بموضوع الهوية المقصودة بهذا المعنى.
لقد جاء هذا الكتاب كمحاولة لتفكيك العديد من القضايا المتصلة بمفهوم الهوية، والعلاقة الجدلية بين هذا المفهوم وبين القضية الجنوبية ولماذا يتحدث الجنوبيون بإصرار عن هوية جنوبية، ولماذا يتهرب الكثير من مثقفي السلطة من الحديث عن هوية أو حتى هويات شمالية؟
إنها محاولة يحذونا الأمل أن تصيب في ما رمت إليه وللقارئ الكريم أن يحكم بفطنته أين أخطأ الكاتب وأين أصاب، وسأكون سعيداً بتلقي أية مناقشات أو ملاحظات قد تفيد في مراجعة المفاهيم وإعادة صياغة ما يمكن الاستفادة منه في إطار قراءة الأحداث وبناء المفاهيم.


(2)..
الفصل الأول
المسار التاريخي للقضية الجنوبية

في الثلاثين من نوفمبر من عام 1967م أعلن عن قيام جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية على أنقاض 23 سلطنة وإمارة ومشيخة كانت تكون ما عُرف بمحميات الجنوب العربي، التي قسمتها السلطات الاستعمارية البريطانية إلى محميات غربية وأخرى شرقية، فأغلب المحميات الغربية كانت قد انخرطت في محاولة بناء اتحاد فيدرالي نظمته ورعته السلطات البريطانية، ومثل خطوة على طريق محاولة "توحيد الجنوب" في كيانٍ واحدٍ لكن ظروفاً تاريخية واجتماعية وجغرافية وغيرها عديدة لم تمكن الاتحاد من النجاح في هذه المهمة، وهو حديث يمكن الخوض فيه كثيراً في سياق آخر ودراسة أخرى.
أما المحميات الشرقية، وهي ذات الكثافة السكانية الأقل والمساحة الجغرافية الأكبر فقد تمنعَ حكامها عن الانخراط في الاتحاد، وفضلوا البقاء كمحميات بعيدة عن شقيقاتها الغربيات، ولهذا ظروف وحيثيات ليست موضوع دراستنا في هذا البحث.
ومهما يكن فإن قيام جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية (التي سيغدو اسمها لاحقا جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية) في 30 نوفمبر 1967م قد أسدل الستار على ما قبله وأسس لما لم يكن ممكنا في عهد الحماية البريطانية، حيث جرى لأول مرة منذ أزمنة غابرة قيام دولة جنوبية على مساحة تشمل 375 ألف كيلو متر مربع، وتمتد من حوف وصرفيت ونشطون شرقاً إلى باب المندب غرباً، شاملة أرخبيل سوقطرة في بحر العرب وجزر ميون وكمران وأرخبيل حنيش في البحر الأحمر.
لم تسر دولة جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية في طريق مفروش بالسجاد فلقد كانت المهمات الجسيمة فوق قدرة النظام حديث النشأة، ووحدها عملية دمج المناطق وتكويناتها السياسية في إطار وطني واحد كانت تمثل تحدياً كبيراً لنظام يديره مجموعة من الشباب الذين باستثناء قلة قليلة من الكهول والمتخصصين تتركز كل خبراتهم في خوض العمليات الفدائية ومنازلة قوات المستعمر، وقد واجه النظام الوليد مجموعة من التحديات التي كان يمكن أن تعصف به لولا الالتفاف الشعبي الكبير الذي صنعته السمعة العالية لقيادة الدولة الجديدة والتنظيم الذي استلم الاستقلال، هذه السمعة المبنية على قهر الدولة الاستعمارية التي لم تكن "تغيب عنها الشمس" ذات يوم، كما مثلت القيادات الجديدة في النظام الناشئ صورة نموذجية للقادة البسطاء الصادقين النزيهين الذين صار الكثير منهم قدوة لجيل كامل من شباب ما بعد الاستقلال.
لقد كان النزوع القومي العروبي في توجهات كل التنظيمات والأحزاب السياسية الجنوبية منذ عهد ما قبل الاستقلال وراء الكثير من الخطوات والمواقف السياسية لمرحلة الثورة الجنوبية المسلحة منذ 14 أكتوبر 1963م حيث تبوأت صدارة المشهد (الثوري) للكفاح المسلح ضد الاستعمار كلٌ من "الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل" و"منظمة تحرير جنوب اليمن المحتل"، والتي سيغدو اسمها لاحقا "جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل" ويختصرها العامة باسم "جبهة التحرير"، والشاهد هنا أن عبارة "جنوب اليمن" كانت حاضرةً في الثقافة السياسية كما في النفسية الاجتماعية الجنوبية منذ وقت مبكر، ثم جاءت بعد ذلك تسمية دولة الاستقلال بجمهورية اليمن الجنوبية الشعبية في نفس سياق انتشار وتنامي تلك النزعة القومية العروبية، وسنتوقف بتفاصيل أكثر عند هذه المسألة في مواقع أخرى من دراستنا هذه.
وهكذا فقد كان شعار "الوحدة اليمنية" جزءً أصيلا من الثقافة السياسية الجنوبية، وقلة قليلة من التنظيمات والأحزاب الجنوبية لم تتحدث في وثائقها عن هذه القضية عانت كثيراً من الانكماش والعزلة خصوصاً وقد اقترن شعار "الوحدة اليمنية" بشعار "الوحدة العربية" الذي ارتبط هو الآخر بنهوض الحركة القومية العربية وتصاعد الحماس الثوري العربي الذي رافق التجربة الناصرية في مصر وما حققته من نجاحات سياسية واجتماعية اعتبرت نجاحات للتوجه الوحدوي العروبي.
وكما في فترة التحرر الوطني ومقاومة الاستعمار، فقد ظل شعار "الوحدة اليمنية" ملازماً لكل فترة ما بعد الاستقلال سواء في فترات الاضطراب وعدم الاستقرار أو في مراحل توطيد بناء النظام وترسيخ أقدام الدولة على الأرض.
مرت تجربة العلاقة بين الجمهوريتين "العربية اليمنية" و"اليمن الديمقراطية" بمراحل متعرجة شابتها المواجهات العسكرية حينا والتراشقات الإعلامية حينا آخر، كما شابها الهدوء والتناغم في مراحل قليلة، لكن الطرفين ظلا يرفعان شعار "الوحدة اليمنية"، وكان كل طرف له في الشعار "ليلاه" التي يتغنى بها.

 (3)...
الفصل الأول
المسار التاريخي للقضية الجنوبية

لم يكن سراً ذلك التفاوت والاختلاف بين نظامي البلدين، ففي حين اختار النظام الجنوبي، طريق الدولة المؤسسية وأنهى كل حضور للعلاقات التقليدية، القبلية والجهوية والعشائرية، وأي نفوذ للشخصيات الاجتماعية على اساس المقامات القبلية والتراتبية الاجتماعية التقليدية، وأحلَّ محلها نظام الدولة والمؤسسة القضائية والنيابية والأمنية، كان النظام في العربية اليمنية يقوم على المزاوجة بين الدولة والقبيلة، بل لقد كانت القبيلة في غالب الأحيان أكثر حضوراً من الدولة، وفي كثير من الأحيان كان زعماء القبائل هم من يحددون ليس فقط محافظ المحافظة ومدير المديرية، بل ورئيس الجمهورية، فعندما غضب هؤلاء من الرئيس عبد الله السلال انقلبوا عليه وأتوا بالقاضي عبد الرحمن الإرياني، وعندما لم يرق لهم الرئيس ابراهيم الحمدي اغتالوه في العملية المشهورة، وأتوا بأحمد الغشمي ثم علي عبد الله صالح.
وفي حين اختارت جمهورية الجنوب نظام الاقتصاد المخطط سار النظام الاقتصادي في العربية اليمنية على أساس "اقتصاد السوق" لكنه لم يتقيد بالمعايير العالمية لهذا المفهوم، بل كان يقوم على العشوائية غير المنضبطة لأي معايير أو موجهات أو قوانين، مع ما شابه من فساد ورشاوي ودخول مراكز القوى الطفيلية في النشاط الاقتصادي مما أفسد ما لهذا النوع من الاقتصاد من حسنات. 
وفي حين حدد النظام في الجنوب حدود الملكية الزراعية والصناعية والمالية في إطار ما كان يُعرَف بـ"التوجه الاشتراكي"، كان نظام الملكية في العربية اليمنية لا يعرف حدوداً وقد لا يكون هذا هو العنصر المهم في الأمر، لكن هذا النوع من النظام في ظل غياب الضوابط القانونية وغياب الدولة عموماً، قد جعل الطبقات الثرية تتوسع في ثرائها على حساب الطبقات الفقيرة التي كانت تزداد عوزا وفقرا وهبوطا إلى قاع المجتمع.
وفي حين أنهى النظام في الجنوب أي أثر من آثار العبودية وحرمها بالقانون ووضع أسسا للمساواة بين الناس بغض النظر عن الانتماء الجنسي أو العرقي أو القبلي أو الفئوي أو الفكري، كانت العبودية في العربية اليمنية ما تزال قائمة بل وواصلت حضورها حتى ما بعد العقد الأول من القرن الواحد والعشرين.
وفي حين كان الاقتصاد في الجنوب يقوم على أساس ملكية الدولة للأرض والبحر وما عليهما من موارد وثروات وتسخيرها لأغارض تنفيذ السياسات الاقتصاديية والاجتماعية المنصوص عليها في دستور ونظام البلد وقاونينها، كان النظام في العربية اليمنية يقوم على الملكيات الخاصة التي لا تخضع لقانون ولا تعرف التنافسية المشروعة أو "المشرعنة"، وقد سمح الفساد والعشوائية والاقتصاد الطفيلي بنشوء بؤر اقتصادية تفوقت في سنوات من حيث ملكياتها على ما يمتلكه كبار المنتميين إلى "الطبقة البرجوازية التقليدية" إذا ما جاز التعبير، ففي حين كان نظام الدولة يزداد فقراً وإفلاساً كان كبار الطفيليين يزدادون ثراء وفحشاً، ووصل الأمر إلى بيع أراضي وأملاك الأوقاف التي من المفروض أنها ملكاً للواقف وحده ولا علاقة للدولة بها، بل بلغ الأمر درجة أن (الدولة) بكل هيبتها وهيلمانها، تقوم باستئجار مباني الوزارات والمؤسسات والمصالح الحكومية من الملاك الأثرياء وأحيانا يكون الوزير أو أحد مقربيه هو المالك للعقار الذي تستأجره وزارته، إذ لم يعد لدى الدولة ما تمتلكه.
إننا هنا لا نجري مفاضلة بين نظامي البلدين، ولا نتحدث عن حسنات هذا أو مساوئ ذاك من النظامين، إذ لكل نظام من المآخذ ما يمكن أن تحسب عليه، وإن كان تغييب الدولة وانتشار العشوائية غير قابل للمقارنة بأي نظام وأي قانون، لكن هدفنا من هذه المقارنة كان تبيان التفاوت بين نهجي ونظامي بلدين ودولتين تتغنيان بنفس الأغنية "الوحدة اليمنية" وترفعان نفس الشعار، ولكن بأسس ونوايا وأغراض ومقاصد مختلفة وأحيانا متنافرة.

يتبع ...

مقالات الكاتب