"المرهبي يرتقي شهيدًا" لأجلك يا جنوب ..!
د. باسم منصور
لم تزل أرض الجنوب تقدِّم خيرة شبابها فداءً لترابها الطاهر... وتأمينًا...
مفاهيم الشرعية والتشريع والمشروعية هي المداميك الأساسي التي يقوم عليها بنيان السلطة ومؤسساتها.حيث ان السلطة تمثل لحظة الجمع بين ثوابت الحق الوطني والأدوات الوظيفية لاحقاقها (مؤسسات السلطة) التي تتكامل وظيفيا مع بعضها لبناء القوة اللازمة لاحقاق الحق، اما التشريع فهو الحلقة الوسطى -حلقة الربط بين الثابت والمتغير ووظيفته شرعنة او قوننة الثابت وجعل تحقيقه ملزما وقوننة التنظيم الوظيفي للسلطة ومؤسساتها وجعل بنائها المؤسسي في وضع يمكنها من تحقيق فعل وظيفي يقود الى بلوغ الغايات المرجوة منه المتمثلة في احقاق الحق وتحقيق العدالة.
السياسة والقيادة والسلطة هي مفاهيم تتشابه ان لم تكن تتماثل مع بعضها لا تستطيع القيام بدورها ان لم تكن قائمة على فكرة ولها تنظيم بنيوي يستطيع القيام بفعل وظيفي قادر على تحقيق الفكرة، فمفهوم السياسة يتضمن الفكرة الشاملة لإدارة الدولة ومفهوم السلطة يتضمن التنظيم البنيوي الذي يعمل على تحقيق فكرة السياسة والقيادة وظيفتها تقود هذا التنظيم صوب تحقيق السياسات العامة للدولة.
هنا ينبغي التأكيد انه يصعب الخوض في النهايات المتضمنة الحلول المكرسة لاحقاقه الحق دون تشخيص البدايات التي قادت الى صناعة طغيان الباطل على حساب تراجع الحق وبيان كيفية الانتقال من المسار الاول الى المسار الثاني.
لا يمكن ان تحصد غير ما تزرع، فالبدايات تكمن في المسارات السياسية الخاطئة التي ابتعدت عن الحق وانفصلت عنه تماما وأقامت تشريعات خاطئة، فصارت دساتيرها والقوانين المتفرعة عنها دساتير وقوانين ايديولوجيات واهواء لم تكن لها صلة بالحق وثوابت الحق، الامر الذي تأسس عليها بنيان مؤسسي اقتصادي اجتماعي وسياسي مشوه وفاقدا للمشروعية، رفضها الواقع لعدم تطابقها مع معطياته ومواصفاته، فانهارت السياسات والتشريعات المنبثقة عنها وما بني عليها من المؤسسات والمصالح العامة.
فالاصل في القانون ان يأتي تعبيرا عن الحق وتجسيدا له، وان لم يكن كذلك فهو ليس بقانون بل كوم من الرغبات والامزجة والاهواء المتصادمة أخذت مسمى القانون. هذا هو حال الدولتين في الجنوب والشمال انتقل ليصبح حالا لما سمي بالدولة الموحدة وفقا لاعلان مايو 1990م ولهذا كان الانهيار شاملا، انهار بنيان الدولتين في الجنوب والشمال وانهار بنيان الدولة الموحدة كما اسموها، وانهارت السياسات والتشريعات التي تحكمت بهما خلال العقود الماضية ، وصرنا نعيش في ما بات يعرف بالحالة اليمنية كما تسمينا بها مؤسسات الشرعية الدولية والقرارات الصادره عنها.
المستثنى الوحيد من كل هذه الانهيارات هو الشرعيات الثابتة المتمثلة بشعبي الدولتين فبنيانهما تعبير وتجسيد للحق وثوابت الحق الوطني لكلاهما(هوية وسيادة وتقرير مصير)،والحق الثابت لا ينهار حتى وان تعثر، والصراعات التي شهداها الجنوب والشمال قبل اعلان مايو 1990 وشهدتها المنطقة كلها بعد مايو كانت صراعا بين الحق والباطل. اكتمل انهيار مؤسسات الباطل، واكتمل انهيار دساتيرها وتشريعاتها القانونية، ولم يتم حتى الان إعادة بناء المؤسسات المعبرة عن الشعبين وثوابت حقوقهما الوطنية والتشريعات الدستورية والقانونية المعبرة عن حقوق كلا الشعبين في كل من الجنوب والشمال.
المستغرب حقا ان الكثير ممن يحسبون على النخبة لازالوا يتحدثون عن الجمهورية اليمنية عن دستورها، عن قوانيها ويضعونها مرجعيات في ديباجة قراراتهم، لازالوا يتحدثون عن مؤسسات دولة، عن مجلس نواب، عن مجلس شورى وعن وعن وعن..اوعية تكسرت وانتهت صلاحيتها واصبحت من الماضي، ولم يعد منها حاضرا غير المسميات، واعتقد انهم يحتفظون بها فقط لغايات الفساد وتبرير اوجه الصرف لميزانياتها الكبيرة التي اصبحت مجرد أغطية لنهب المال العام وتكريس مزيدا من الفقر والحرمان لشعبي الدولتين.
المجلس الانتقالي الجنوبي يعمل على ان يلعب دور السلطة الانتقالية في الجنوب ويعيد تشكيل الهياكل الوطنية والبناء المؤسسي للدولة في الامتداد الجنوبي كله ويضع نهاية لمسلسل النهب المخزي والذي تمارسه عصابات تتقمص بقميص الدولة والسلطة. لهذه الأسباب بالضبط نراهم يشنون الحروب والمؤامرات لإفشال المشروع الوطني الجنوبي الذي تقوده السلطة الانتقالية في الجنوب المتمثلة بالمجلس الانتقالي الجنوبي. ولم تقتصر حروبهم على الجنوب ومشروعه الوطني على الشق العسكري والامني، بل طالت الاقتصاد والانشطة المالية والعملة وحرب الخدمات والمرتبات وابشعها وأشدها ارهابا الحرب الإعلامية وحرب الإشاعات التي تستهدف العقول وتزييف الوعي وطمس الحقائق.
ولوقف كل هذا العبث الذي يجري، مضى المجلس الانتقالي الجنوبي بخطوات جريئة بعد امتلاكه التفويض الشعبي بتمثيل شعب الجنوب وقيادته نحو تحقيق الأهداف العليا لمشروعه الوطني فإنشاء هيئة الرئاسة والجمعية الوطنية ودوائرها والامانة العامة وتشكيل مجالس المحافظات والمديريات في الامتداد الجنوبي كله، وخطى خطوات مهمة في بناء المؤسسات العسكرية والامنية لتثبيت الأمن الداخلي والدفاع عن المنطقة السيادية لشعب الجنوب.
ولتعزيز مشروعية المجلس الانتقالي الجنوبي ومؤسساته وبامتلاك شرعية التأييد الشعبي وشرعية الاعتراف الخارجي وبمرجعية اتفاق الرياض الذي يعترف بثنائية الجنوب والشمال فإن الخطوة الضرورية الان هي ان يتوج كل ماتم بتشريع دستوري وقانوني يشرعن الهوية الوطنية المستقلة لشعب الجنوب ويشرعن سيادته على أرضه وحقه في تغيير مصيره ويضفي طابع المشروعية على البناء المؤسسي الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والعسكري وكامل القطاعات الوظيفية الاجتماعية والإدارية على امتداد المنطقة السيادية لشعب الجنوب.
لهذا الغرض ينبغي ان تخطو هيئة رئاسة المجلس الانتقالي ورئاسة الجمعية الوطنية خطوة بتشكيل لجنة دستورية تظم في عضويتها كبار أساتذة القانون والقضاة ممن تتوفر فيهم المعايير المطلوبة لهذه المهمة تتولى اعداد تشريع دستوري انتقالي ينظم ويشرعن عمل المؤسسات الانتقالية ويصبح تشريع مرجعي يحتكم له الناس بديل عن الدساتير والقوانين التي انتهت صلاحية العمل بها. واكتفي بطرح المقترح ولن أتوسع في الأمر، فهذا يعني رجال الاختصاص الدستوري والقانوني وهم سيتولون بلورة الفكرة ليصبح عندنا الأسس الثلاثة لمقومات السلطة( شرعية ثابتة وتشريع دستوري وقانوني ومشروعية البناء المؤسسي لمؤسسات السلطة).
*أستاذ الفلسفة السياسية المساعد
كلية الآداب جامعة عدن