من السقاف للضالع سلامي.. هذه حقيقة الإعجاز الذي حدث في "الضالع" يوم 25 مايو 2015م

كتب: مؤمن السقاف

 

هو يوم شعرت فيه كأنني في محض خيال، أو أن السينمات فتحت في عدن وأنا أشاهد فيلم هوليوود.. فمن يعرف تضاريس الضالع والقوة المعادية التي تتواجد هناك سيعرف أن ما أرويه لكم حقيقة لا خيال.. ومن لا يعرف الوضع سيقول إن ما أرويه خرافة أسمعتني إياها جدتي في الصغر..

فما حصل في ذلك اليوم ضرب من الخيال، اتضح لنا فيما بعد أنه واقع، وتذكرت في ذلك الوقت ذاك الشائب الذي حدثني بالمستشفى أثناء خروجي من سجن الصولبان لتلقي العلاج «شد حيلك يا ولدي، هذي ضريبة الحرية.. والحق بينتصر»، وفعلاً انتصر الحق.

كنت بمعية زملاء ورفاق من العاصمة عدن، في دورة الصاعقة التي تلقيناها في معسكرات سرية في الضالع.. ورغم مشقة تلك الدورة وتدريباتها العنيفة، إلا أننا كنا عزيمة وأمل مصحوبة بحلم تحرير الجنوب، وأن نكون نواة الجيش الجنوبي للدولة القادمة.

لم نكن نعرف بالسيناريو الذي سيحصل.. كل ما كنا نعرفه فقط هو أننا مشاريع شهادة للجنوب فاختلطت الدورة بالمقاوم العدني والضالعي والأبيني والحضرمي واليافعي والردفاني والشبواني والصبيحي، في مشهد كان الكثير لا يعرفونه لسرية العمل في تلك الفترة، فلم تكن المقاومة حكراً على أبناء الضالع فقط، فقد كانت تتدرب الدفع من كافة أبناء الجنوب حتى تم إقامة دورات أخرى في شبوة لتدريب أبناء شبوة وحضرموت.

لقد كان حرص قائد ومؤسس مشروع المقاومة الجنوبية القائد عيدروس على أن تحوي المقاومة جميع أبناء الجنوب، في وقت كان الكثير يرفض فكرة التدريب إما خوفاً أو تردداً.

وبفضل من الله ومنّة لم تذهب هذه الجهود هدراً.. بدأت الأعمال الخاطفة ابتداء باقتحام موقع الخزان والإجهاز على جميع من فيه، مروراً بموقع المظلوم وعملية اقتحام القطاع الغربي بالحبيلين، وعمليات أخرى صغيرة في العاصمة عدن.

وأتت بعدها الحرب، وهناك مقاومون جاهزون للحروب وعلى دراية بالتكتيك العسكري، ومدربون على أعلى مستوى من الكفاءة.
ولأن الحلو ما يكمل، كانت هذه الكتائب المقاتلة جاهزة للقتال، ولكن بلا إمكانيات.. تدخل حينها الحبيب عبد العزيز الجفري وأمدنا بما يستطيع من ذخيرة توزعت على المقاتلين.. ولك عزيزي القارئ أن تتخيل أن احتياطي الذخيرة الذي كان يتواجد في مخزن التسليح الخاوي على عروشه هو عبارة عن شنطين رصاص فقط لا أكثر!! إلا أن ذلك لم يمنع الصمود الأسطوري في وجه الغزاة في أيام الحرب الأولى.

مر يومان ولايزال الصمود متواصلاً ولم يستطع
العدو التقدم شبراً واحداً.. حينها وصلتنا أخبار بأن معسكر كرش سقط بيد الحوثة، فبدأت العزيمة تقل في قلوبنا، فإذا بخبر آخر يليه وهو سقوط قاعدة العند بيد المحتل الحوثي، فحاولنا عدم الاهتمام بهذا وتصبير أنفسنا بأن هذا الشيء لا يعنينا، وبأننا سنصمد مهما كلف الثمن.

وبعدها بلحظات القائد عيدروس يأمر باجتماع مع القوة المتواجدة، وهنا كانت الصدمة، خاطبنا القائد قائلاً: يا شباب هناك شيء غريب يحصل في كرش والعند وتسهيل لدخول الحوثيين، ونحن هنا صمدنا بلا إمكانيات، لذلك أنا أأمر من أتى من أماكن بعيدة بأن يغادر ويعود لأننا سنغير استراتيجتنا إلى حرب العصابات، وحرب العصابات لا تحتاج لأعداد كبيرة، صحيح سننسحب لكن سنعمل بطريقة أخرى ولن نرضخ.

كان قراراً صعباً بأن يتخذه قائد لديه أفراد شبان متحمسون سيعتبرون هذا انسحاباً أو هزيمة وخوفاً.. ولكن كانت كلمات القائد قاسية علينا ومؤلمة ولا يقولها سوى قائد لديه بُعد نظر، ويبحث عن المصلحة العامة، وعن عدم إقحام أفراده في مواجهة خاسرة، رغم صعوبة أن يتخذ أي قائد قراراً صعباً كهذا.

أما أنا بعد سماعي لهذا القرار سالت دموعي لا إرادياً، وشعرت بالإحباط والهزيمة، وعاد من كان معي من أصدقائي إلى عدن قبل حدوث الحرب فيها.

بالنسبة فرفضت العودة، وكنت أخاطب زملائي وأنا في قمة الانكسار «أنا لن أعود معكم لأني أتوقع أن شيئاً ما سيحدث، مستحيل أن تكون الهزيمة بهذه السهولة.

وفي فجر ذلك اليوم إذا باتصال يأتيني بأن عودوا إلى الجبهات فوراً، وبعدها وصلني خبر بأن هناك طائرات تقصف صنعاء، صحيح أني توقعت بأن شيئاً ما سيحدث... لكن لم أكن أتوقع أن تتدخل دول التحالف العربي وبهذه القوة.

المهم عادت القوة إلى جبهاتهم ومواقعهم والبسمة لا تفارق محياهم.. وواصلوا الصمود الأسطوري الذي عمدوه بدماء الفدائيين الأبطال وما زالت أيضاً الإمكانيات شحيحة، فلا إنزالات للسلاح، ولا قصف لطيران التحالف، والحرب قد مر عليها شهران، فبعد هذا التجاهل قصفت قوات التحالف العربي في الضالع، ولكن بالخطأ على مواقع المقاومة الجنوبية،
ومرت الأيام وبدأت إنزالات الذخيرة الشحيحة، والتي تتحطم أغلبها أثناء نزولها، لكن كانت تفي بالغرض وتغطي بعض العجز الحاصل.

وحينها بدأ المقاومون يفكرون بكيفية مهاجمة العدو بدلاً من أن يفكروا بالدفاع.. فبدأت الوفود تأتي تباعاً للقاء بالقائد عيدروس من أجل إقناعه بالهجوم على المواقع، وكان القائد دائماً يرفض الهجوم على موقع واحد وبدون تخطيط، حيث كان تفكيره منصباً على أن يهجم على عدة مواقع استراتيجية وذات موقع مهم دفعة واحدة، من أجل إسقاط حصن ومعسكر الجرباء.. وكان الغالبية من الشباب مندفعين ومتحمسين للهجوم بدون تخطيط، وهذا ما كان يرفضه القائد، إلى أن تم التنسيق مع قوات التحالف للضرب بالطيران ويتم بعدها الهجوم على المواقع والمعسكرات، وبدأنا بالتسلل ليلاً إلى تحت المواقع في انتظار ضربة الطيران، مفترشين الأرض وملتحفين السماء، إلى أن شعشع ضوء الشمس وظهرت مواقعنا حينها للعدو، ولم تأتِ ضربة الطيران ونجونا بأعجوبة في ذلك اليوم، في موقف شبيه لحصارنا في بداية الحرب في موقع المظلوم.

ومرت الأيام وقرر القائد التخطيط للهجوم وبدون الاعتماد على الطيران والتحالف.. وكانت الخطة هي التسلل والهجوم المباغت على موقع الخزان والأوسط والخربة وأنود، وفي حالة سقطت هذه المواقع سيسقط معسكر الجرباء تلقائياً، بينما تهاجم قوة اخرى موقع المظلوم المطل على الأمن المركزي.

واشترط القائد عيدروس أن يكون الهجوم على كل موقع بأعداد قليلة، أي ما بين حضيرة وفصيلة ولا يزيد عن ذلك حتى لا تكون هناك خسائر بشرية كبيرة.

وهنا بدأت اللحظة التاريخية..
25 مايو، الساعة الثانية بعد منتصف الليل، وهي الساعة التي حددت للانطلاقة والهجوم المباغت.. ودارت رحى المعركة، وكانت إشارة النصر في أي موقع محرر هي ثلاث طلقات مضيئة.. وبدأت أول إشارة من الموقع الأوسط، وتلتها المواقع تباعاً، وسط تكبيرات المساجد، ولم يتبقَ لنا سوى موقع الخزان الذي وجدنا فيه صعوبة لوعورته ولموقعه الاستراتيجي الذي يطل على جميع أنحاء الضالع، ولكن عزيمة الأبطال الذين شاركوا بالهجوم وهم يملكون ستين طلقة لا غير، وبدون قنابل لضعف الإمكانيات حسمت المعركة.. وكانت هنا تلك اللحظة التي لن أنساها ما حييت هي الصرخة التي صرخها القائد عيدروس وهزت مشاعري بقوله «الله أكبر.. الله أكبر».. أحسست حينها بأنه يصرخ فرحاً لأنه أخرج عبئاً كبيراً كان جاثماً على صدره.. وأنا أناظر إليه والدموع تنهمر مني فرحاً.. هل أنا في حلم أم في واقع؟ وهل نحن الآن في حصن الجرباء الذي كان يركع أبناء الضالع ويقتل المدنيين ويرتكب المجازر ..؟!

وأتساءل هل نحن من كنا نحمل الستين طلقة فقط انتصرنا على من يملك المدافع والترسانة العسكرية الضخمة؟! حينها فتحت جوالي الذي كان في مواقعنا الدفاعية السابق لا تتواجد فيه التغطية.. ولكن أنا الآن فوق موقع الخزان والجثث الحوثية تحت أقدامنا، ووجدت شبكة الجوال مفتوحة وفوراً أرسلت لأخي وحبيبي الغالي عبد العزيز الشيخ صورة القائد في موقع الخزان لأخبره بالإعجاز الذي حصل.. وما هي إلا دقائق فإذا باتصال من الربان السيد عبود خواجة يبارك لنا هذا الانتصار، ويغني لنا بصوت مخلوط بنبرة البكاء «أناديكم.. أشد على أياديكم.. وأبوس الأرض تحت نعالكم.. وأقول أفديكم».

ونحنا في جلسة استرخاء في رملة معسكر الجرباء لالتقاط الأنفاس بعد مارثون طويل، فاذا بالأخبار تأتينا باستشهاد عدد من أركان المقاومة الجنوبية، ومن كانوا الذراع الأيمن للقائد عيدروس، وهم الشهيد عمر ناجي (أبو عبدالله) قائد سرية الاقتحام، والقائد محسن، والمقاوم بلعيد والقيادي والقائد المخلص أبو طارق، إضافة إلى قيادات استشهدت بالحرب، ومن رجالات القائد عيدروس مثل علي الرجال وقائدي ومعلمي أبو العز، كانت بمثابة الضربة القاصمة للقائد عيدروس حين فقد أهم مساعديه ورجالاته الأوفياء..

وفي الجهة الأخرى تحرك القائد شلال لموقع السوداء وحرره مع المواقع المحاذية له.. وأعلنت الضالع منطقة محررة، وعمت الأفراح والليالي الملاح، فالحلم أصبح واقعاً، وابناء الضالع من تم تجاهلهم بالحرب وعدم مدهم بالسلاح والذخيرة استطاعوا إبهار العالم وتحقيق المستحيل.. ورغم كل ذلك جازاهم الجميع وهم يحمون الآن حدود سناح في البرد القارص، بل وأنزلوا سقف مطالبهم من رواتب إلى بطانيات يقوا بها أنفسهم من البرد، ورغم ذلك لم يجدوا مستجيباً..

أنا لا أنتمي للضالع أسرياً.. ولكن لم أصادف بحياتي ولم أرَ تضحيات ومناضلين بهذه الفدائية والشراسة.